عدنيّة شبلي: المخيّلة أداة لمستقبل آخر | حوار

عدنيّة شبلي

 

ضمن برنامجها للثقافة والفنون، أطلقت «مؤسّسة عبد المحسن القطّان» مسابقة «الفنّان الشابّ – اليايا» (2020) بعنوان: «عرافات: فنّ تذكّر المستقبل»، الّتي كُرِّست لتكون محطّة تأمّليّة فارقة لتخيّل شكل المستقبل، من خلال سلسلة نماذج تعلّميّة، تجريبيّة وبحثيّة، لا تركّز على المُنْتَج النهائيّ بقدر ما تركّز على العمليّة الإنتاجيّة نفسها، وما تكشفه من إمكانات لمسارات مستقبليّة بديلة.

في هذا الحوار الّذي تجريه فُسْحَة – ثقافيّة فلسطينيّة مع الروائيّة والناقدة الفنّيّة عدنيّة شبلي، القيّمة على مسابقة «الفنّان الشابّ - اليايا» بنسختها الحاليّة؛ نتحدّث عن معنى تخيّل المستقبل وسيلةً لاستشرافه، وأهمّيّة العمليّة الإنتاجيّة مقارنةً بالمنتج النهائيّ، والمسابقة الفنّيّة وعلاقتها بأنماط الإنتاج الرأسماليّة، وكيف تطوّرت المسابقة إلى شكلها الحاليّ، ومآلات هذا التطوّر.

 

فُسْحَة: ما الّذي يعنيه تركيز مسابقة «الفنّان الشابّ – اليايا» بنسختها الحاليّة على العمليّة الإنتاجيّة، بدلًا من التركيز على المنتج النهائيّ، كما كانت الحال في النسخ السابقة؟

عدنيّة: مسألة شكل المسابقة جاءت بمبادرة من «مؤسّسة عبد المحسن القطّان»، الّتي أعطتني الإمكانيّة للتعامل مع هذه التساؤلات، بالطريقة الّتي اعتقدت أنّها ملائمة لسياقنا الفلسطينيّ. المسابقات ظاهرة جديدة فلسطينيًّا، ودائمًا ما كان لديّ إشكاليّة في مفهوم التسابق مع الآخر، ويصبح الأمر أكثر إشكاليّة في مسابقات الكتّاب، الّتي يصبح فيها الزميل منافسًا، في الوقت الّذي قد تكون مهتمًّا بقراءته خارج المسابقة. تلك مشكلة كبرى، تدفعني للتساؤل عن إمكانيّة تحوّل المسابقة إلى مساحة لربطنا ببعضنا بعضًا، بدلًا من المنافسة بيننا، وتمنّي التغلّب على الآخرين. هناك كلّ هذه العواطف والأفكار السلبيّة، وهذه مشكلة المسابقات، الّتي حاولنا التغلّب عليها في مسابقة «اليايا». ما معنى التنافس لنكون فائزين؟ هذا السؤال يعود بنا إلى تاريخ ظهور المسابقات، وارتباطها بأنماط عمليّات الإنتاج الرأسماليّة الّتي تخلق هذه التنافسيّة بين العمّال. وإن كنّا ننتقد الأنماط الرأسماليّة في حياتنا اليوميّة، وفكرة التقسيم الطبقيّ الفنّيّ، أو الهرميّة الفنّيّة الّتي تُعْلِنُ أحدًا أفضل من الآخر، فذلك بالضرورة سيعين التساؤل عن معنى الثورة الفنّيّة، والتفكير في خطوات أوّليّة. على مستوى «اليايا» فضّلنا الحفاظ على المسابقة، لكن مع تغيير شكلها ومحتواها. أنا مع استمرار المسابقات، لكن مع تحويلها إلى مساحة تجميع لا تفريق، ومساحة تجريب للدفع بالأشخاص إلى الغوص في مناطق مجهولة. من هنا جاءت فكرة نسخة «اليايا» الأخيرة، من مبدأ التعاون والتجريب والتفكير داخل العمليّة الإنتاجيّة. هي محاولة للخروج بشكل مختلف للعمل الفنّيّ، بحيث تكون المسابقة مرتكزة على مجموعة من الأشخاص الّذين يعملون مع بعضهم بعضًا، لا على الفنّان الواحد.

 

فُسْحَة: تنطلق المسابقة من فكرة التحريض على التخيّل، ويبدو أنّ هذه الفكرة جاءت أصلًا من بداية التفكير في نسخة المسابقة وتخيّلها بطريقة مختلفة. لكن، هل يعكس ابتداع محتوًى جديد، وعدم الإتيان بشكل جديد كلّيًّا، تردّدًا يتمثّل بالتحريض على التخيّل بدلًا من التحريض على الواقع والتمرّد عليه؟

عدنيّة: ما من تعارض، فالمخيّلة الّتي نحرّض عليها تعني محاولة تغيير أدواتنا الحاليّة في العمل الفنّيّ، وتغيير أدوات المخيّلة لتغيير مساراتنا في المستقبل. أنا أرى المخيّلة والواقع في حالة ارتباط، ولا يمكن فصلهما. يمكن القول إنّ كلّ مكوّنات الواقع تتأثّر وتكون نتيجة لتفاعلنا التخيّليّ مع الواقع، وهذا يعني أنّه ليس هناك «نحن» في انفصال عن الواقع، بل، كما رأينا خلال السنوات الأخيرة، ثمّة آليّة تفاعليّة تحقّق مخاوفنا على الأرض، وكأنّ مخاوفنا الّتي تأتي من المخيّلة هي استشرافات بالمستقبل. إذن، لماذا لا نشتغل على آمالنا بدلًا من الاشتغال على مخاوفنا، وتمكين آمالنا من تغيير ما يخيفنا في الحاضر؟ فإن كنّا نخشى شكل السوق الفنّيّ والعلاقات الهرميّة المرتبطة بتطبيق الأنماط النيوليبراليّة في العمل الفنّيّ، فلماذا لا نبدأ بتغيير ذلك عبر المخيّلة وابتداع أنماط جديدة؟ فكرة سوق الفنّ مرتبطة بالنيوليبراليّة الّتي هي نِتاج مرحلة ما بعد «أوسلو»، وواقع أنّ السلطة الفلسطينيّة مكّنت للنيوليبراليّة الّتي قُدِّمَت خلال العشرين عامًا الأخيرة، وأثّرت بشكل كبير في الثقافة الّتي توازي البنى السياسيّة والاقتصاديّة. إذن، كيف نغيّر الأدوات لنغيّر مساراتنا المستقبليّة؟ وإن فعلنا ذلك فسنتمكّن من استكشاف مناطق أخرى لم تكن لتُكْشَف بالأدوات القديمة. المسألة ليست مسألة تردّد بقدر ما هي محاولة مساءلة ذاتيّة لأدواتنا الّتي هي إشكاليّة أصلًا، وتعتمد كثيرًا على مفاهيم كالأنانيّة والمصلحة الذاتيّة، الّتي أصبحت نوعًا من الأخلاقيّات النيوليبراليّة في السياق الفلسطينيّ.

 

فُسْحَة: هل يستتبع عدم التركيز على المنتج النهائيّ، عدم التركيز على فكرة العرض أو المشهديّة المرافقة للعرض؟ 

عدنيّة: كلّا، نحن فقط لا نجعل من العرض هدفًا نهائيًّا؛ فلماذا التشديد على المنتج النهائيّ، في حين أنّ عمليّة الإنتاج قد لا تكون ناجحة؟ مثلًا، إن كنّا سنفكّر في مثال راديكاليّ، لنفكّر في فكرة الدولة الفلسطينيّة الّتي نتخيّلها، وتخيّل أنّها ستكون هي نفسها الّتي لدينا نموذج مصغّر عنها الآن. هل نريد هذه الدولة فعلًا؟ ألا نريد شيئًا آخر؟ فكرة الدولة مرتبطة بالرأسماليّة، وبأنّ النموذج المهيمن والسائد هو الدولة، لكن، ربّما نريد نموذجًا آخر يناسب ظروف حياتنا أكثر. عندما أفكّر في السلطة الفلسطينيّة، أفكّر في مثال برج المراقبة الّذي يُفْتَرَض به وظيفيًّا مراقبة البشر؛ فلو شغل البرج جنديّ إسرائيليّ فسيراقب الفلسطينيّين، ولو شغله جنديّ فلسطينيّ فسيراقب الفلسطينيّين أيضًا؛ لأنّ البرج نفسه مُصَمَّم للمراقبة. الشكل والوظيفة لن يتغيّرا بتغيّر شاغل الموقع السلطويّ. وهذا ما نراه متحقّقًا في سلوكيّات السلطة الفلسطينيّة الّتي تراقب، وتعتقل، وتضرب، وتقتل الفلسطينيّين، كما حدث أخيرًا مع الناشط نزار بنات. المشكلة، في رأيي، تكمن في فكرة الدولة نفسها، فلماذا لا نفكّر في منظومة أخرى، في أشياء أخرى؟ لماذا لا نخترع أفكارنا الخاصّة الجديدة؛ انطلاقًا من علاقتنا بالمكان، وبالمجتمع الّذي نريده، وطبيعة الفنّ الّذي نريد إنتاجه؟ وهذا يتطلّب التركيز في العمليّة الإنتاجيّة، لا المنتج النهائيّ؛ فإن اشتغل فنّان على مشروع معيّن، واكتشف أنّ المشروع يذهب في اتّجاه نرجسيّ لتحقيق الذات، فسيتوقّف لأنّ فكرة المشروع لا تدور حول تحقيق الذات، بقدر ما تتعلّق بالتجريب. لن يشعر الفنّان بضرورة الانتهاء من العمل، بغضّ النظر عن الاتّجاه الّذي يذهب إليه؛ لأنّ المنتج النهائيّ ليس هو الغاية، وهذا ما يزيل الضغط عن المشاركين والمشاركات، وسيجعلهم منفتحين أكثر على تجريب أفكار جديدة قد تظهر خلال عمليّة الإنتاج، وهو ما يجعل المشاريع تتحوّل مع الوقت بطريقة مثيرة، ليّنة وملهمة.

 

فُسْحَة: تنطلق مسابقة «اليايا» من رمزيّة الهامش الّتي مثّلها رسمي أبو علي في قصّته «قطّ مقصوص الشاربين»، الّتي تتحدّث عن مفاهيم كالعبثيّة والعدميّة في زمن الثورة، الّتي أصبحت في الحاضر مفاهيم تستخدمها النيوليبراليّة لتحييد الثوريّين. لكن، حتّى لو تمكّنت المسابقة من تقديم نموذج غير النيوليبراليّ الرأسماليّ، ألن يظلّ الهامش حاضرًا ليمثّل صوت المقموع؟

عدنيّة: ليس دائمًا. الرأسماليّة مجرّد حدث تاريخيّ لا يتجاوز خمسمئة عام من تاريخ الحضارة البشريّة، الّتي تزيد على سبعة آلاف عام. ثمّة أشكال أخرى للوجود غير الرأسماليّة والدولة اللتين تبدوان كأنّهما نهاية كلّ شيء. النيوليبراليّة أيضًا حديثة، ولا تزيد على ثلاثين عامًا، وقبلها كانت أفكار كالاشتراكيّة الّتي، مع الأسف، كما في مثال برج المراقبة، كانت مجرّد إشغال لمراكز السلطة رغم اعتقاد الاشتراكيّين أنّ المسألة هي فقط تنصيب أشخاص أفضل، وكلّ شيء سيكون بخير. لكن، إن عدنا إلى ماركس، ففكرته عن الثورة الاشتراكيّة هي سيطرة الثوّار على الدولة وتفكيكها؛ للوصول إلى حالة من غياب الدولة، ولا أحد فعل ذلك. الإشكاليّة تبدأ عند التمكّن من مراكز القوّة الّتي تصبح اختبارًا صعبًا. وهنا يصبح الهامش مهمًّا؛ لأنّه يذكّر بأولئك الّذين رفضوا القوّة، وهنا نعود إلى شخص، مثل رسمي أبو علي، الّذي عرف وتنبّأ في قصّته بأنّ هامشه سيصبح حاضرنا نحن. رفض أبو علي لغة الثورة الّتي تضمّنت لغة التضامن واليسار ومفاهيم أخرى؛ لأنّها كانت لغة بيروقراطيّة ومتحجّرة، وحاول البحث عن لغة صادقة تتطابق وتعبّر عن تجربته الخاصّة. إن وضعنا هذا كلّه جانبًا، وفكّرنا للحظة في أنّ الدولة الّتي نريدها، ربّما كنّا نريدها لأنّ المشروع الصهيونيّ أسّس لفكرة الدولة في فلسطين، فسيكون علينا التفكير في ما قبل ذلك، ما الّذي كانته فلسطين قبل ذلك؟ لماذا الدولة ما نريده، ولماذا لا نفكّر في طرق أخرى للوجود؟ لماذا عدم البحث عن مفاهيم جديدة والتوقّف عن نسخ الآخرين، مفاهيم على صلة بتجربتنا الخاصّة وبلغتنا الخاصّة؛ لتصل بنا إلى واقع أكثر صدقًا والتصاقًا بواقعنا المعيش.

 

فُسْحَة: كيف تُطَبَّق هذه الأفكار في المشاريع المشاركة في المسابقة؟

عدنيّة: في مشروع روبيرتو سانتاجيدا السينمائيّ، يشتغل على مفهوم الصدفة، وكيف تؤدّي دورًا مهمًّا في تشكيل حيواتنا، وبإمكانيّات توظيفها أو اللعب معها؛ للكشف عن إمكانيّات غير مستكشفة لتشكّل الواقع، والكشف عن مركزيّتها في عمليّة الإنتاج الفنّيّ. فلو تأمّلنا كمّيّة الأشياء الّتي حدثت بالصدفة، لأذهلنا التفكير في كلّ الأشياء الّتي لو لم تحدث صدفة لكانت حيواتنا ستختلف تمامًا عمّا هي عليه الآن. الفكرة هي التساؤل عمّا سيحدث لو تركنا الصدفة تتدخّل أكثر في تشكيل حياتنا وطريقة عيشها، كضدٍّ لفكرة تنظيم الوقت والتفكير فيه موردًا مادّيًّا يجب استغلاله بكفايَةٍ عالية وبشكل دائم. ما معنى استغلال الوقت؟ يعني جعله مربحًا بطريقة ماليّة. ماذا عن التأمّل فقط؟ التأمّل دون شعور بالضغط النفسيّ الدائم، والعائد إلى اقتناعنا بضرورة العمل واستغلال أنفسنا لصالح النظام الرأسماليّ النيوليبراليّ. ثمّة أيضًا مشروع «دليل المتوتّر واللامتعمَّد من حبّ الأرض»، لآلاء يونس، الّذي يطرح أسئلة عن معنى حبّ الأرض، ولهذه الأسئلة أهمّيّة في سياقنا الحاليّ، بالنظر إلى الأزمات البيئيّة الناجمة عن الآثار المدمّرة للنشاط الإنسانيّ على البيئة. أيضًا مشروع «مسارات الوادي»، لرنا بطراوي وشريف سرحان، الّذي يبحث في علاقة الإنسان الفلسطينيّ بالنهر، والنهر هنا هو وادي غزّة، وبكيفيّة تخيّل حياتنا حول النهر، والتعامل مع النهر بصفته كينونة فلسطينيّة. يطرح المشروع أسئلة تتعلّق بالسياق الفلسطينيّ، وأفكار مولودة من السياق المحلّيّ كوادي غزّة الملوّث بالجيف الّتي حوله، ورائحته الكريهة والناس الّذين يكرهونه؛ ما المعرفة الّتي يمكننا استقاؤها من هذا النهر؟ ذلك أنّه يمثّل واقعنا، وفيه المعرفة الّتي ستساعدنا على تخيّل المستقبل، ومعرفة أنفسنا ومستقبل النهر نفسه. كذلك مشروع مجد كيّال وداليا طه الّذي يطرح أسئلة عن اللغة، وكيف يمكنها أن تكون ثوريّة شكلًا ومضمونًا، والمستوحى من قصّة رسمي أبو عليّ. وأخيرًا ثمّة مشروع دنيا جرّار المتعلّق بالموسيقى في حياتنا، وبالأصوات المركزيّة وكيفيّة تناتجها من علاقة الفلسطينيّ بالطبيعة.

 

فُسْحَة: ما الممكن أن تؤسّس له تجربة «اليايا» (2020)، وكيف ستؤثّر في شكل المسابقات الفنّيّة في فلسطين والمنطقة العربيّة؟

عدنيّة: نحاول تجنّب التفكير في الأثر اللاحق، في الوقت الحاليّ هي تجربة، ومثل تجربة رسمي أبو علي الّتي مثّلت هامشًا ظلّ يضيء لنا حتّى بعد مرور وقت طويل على احتمالات لمسارات أخرى، فهذه المسابقة محاولة لكشف مسارات بديلة. هي شقّ صغير في جدار قد يخلق إمكانيّات للتفكير بكلّ شيء بطريقة مختلفة. هذا هو الهدف الرئيسيّ للمشروع، وليس نفي فكرة المسابقات. ربّما تجعلنا نعيد النظر في منافسة بعضنا مرّة أخرى. لا أعرف إن كانت «مؤسّسة عبد المحسن القطّان» ستعود إلى المسابقة بشكلها التنافسيّ، أمّا الآن فالكلّ سعيد بالعمل على الأرض وانتشاره إلى أماكن بعيدة؛ فالمشروع في السابق كان يتعلّق بشخص واحد، أمّا الآن فيصل عدد المشاركين في «مشروع غزّة» إلى 300 شخص، و«مشروع ربرتو السينمائيّ» يضمّ 79 شخصًا مستفيدًا. نحن لا نتحدّث عن منتج نهائيّ، بل عن أشياء تحدث الآن، عن أشخاص يتلاقون ويفكّرون مع بعضهم بعضًا بإمكانات جديدة خارج صالة العرض المغلقة، الّتي تفصل بين الداخل والخارج. لقد تمكّنّا من الخروج من هذا التقسيم المكانيّ، وإن عُدْنا إلى صالة العرض فلأنّنا سنرغب في مشاركة التجربة مع أشخاص لم يستطيعوا أن يكونوا جزءًا منها.

 

 


أنس إبراهيم

 

 

 

كاتب وباحث. حاصل على البكالوريوس في العلوم السياسيّة، والماجستير في برنامج الدراسات الإسرائيليّة من جامعة بير زيت. نشر العديد من المقالات في عدّة منابر محلّيّة وعربيّة في الأدب والسينما والسياسة.